الفلسفة و المنهج
تأطير إشكالي :
لقد
شكل العصر الحديث مهد القطائع مع كل العصور السابقة، و قد نتج هذا عموما عن محاولة
الإنسان للتفكير في الطريق الذي يستطيع عبره الوصول إلى الحقيقة بخصوص ذاته و العالم، و في حين عُدَّ
العقل المَلَكَة التي يتفرد بها الإنسان عن باقي المخلوقات، فقد تشبث به لأبعد
حدود، متجاهلا كل الحقائق الجاهزة التي قُدمَت له بالعصر الوسيط من قبل الأديان و
المعتقدات، و بهذا كان العصر الحديث بداية لرسم مناهج و طرق جديدة من أجل فهم
الذات و الطبيعة أكثر، وهذا بناء على كل من العقل و المعطيات التجريبية في ذلك، و في
هذا السياق تبرز إشكالية علاقة الفلسفة و التفكير العقلاني بالمنهج و الحقيقة، مما
يجعلنا أمام عدة تساؤلات لعل أبرزها ما يلي :
- ما المقصود بالمنهج ؟ و ما علاقته بالتفكير الفلسفي العقلاني و الحقيقة ؟ و ما
هو المنهج الذي يمكن اعتماده من أجل بناء معرفة حقيقة حول الذات و العالم ؟ و ما هي خطواته الأساسية ؟ و هل المنهج واحد أم
متعدد ؟ .
مطلب التحليل و المناقشة
أولا : مطلب التحليل : تحليل نص ديكارت ص28
صاحب النص :
صاحب هذا النص هو رونيه ديكارت، ولد ب1596 و توفي سنة
1650، و هو يعد أب الفلسفة الحديثة و مؤسسها، و رائد المدرسة العقلانية أيضا، و من
أهم مؤلفاته : مقال في المنهج – تأملات في الفلسفة الأولى .
تأطير النص :
يأتي هذا النص كمساهمة في الإجابة عن إشكالية المنهج
المؤدي إلى الحقيقة، وهو يقدم لنا الخطوات التي يجب اتباعها من أجل بلوغ الحقيقة،
و هي عبارة عن خطوات عقلانية تنبني على العقل .
الأفكار الأساسية للنص :
يوضح ديكارت أن أول خطوة من أجل البحث عن طريق للحقيقة
هي صيانة النفس من أي خطأ، و ذلك عن طريق توخي الحذر من أي معرفة و الشك فيها ما
عدا المعرفة العقلية .
يؤكد ديكارت على أن علوم المنطق و الرياضيات لا تفيد في
تعلم الأمور و لكنها تعنى بالشرح و التفسير أكثر، و لذلك وجب البحث عن طريقة أخرى
لبناء حقائق متينة و صلبة، و قد قاده هذا إلى رسم قواعد أربعة جديدة و الالتزام
بها التزاما صارما .
يقترح ديكارت قواعد عقلانية أربعة وجب الالتزام بها من بناء معارف يقينية و
حقة هي :
أولا : الشك و البداهة : وضع كل الأشياء موضع تساؤل، و
عدم التعجل بالحكم على أي معرفة ما لم تتوافق مع الحقائق البديهية و الواضحة للعقل
.
ثانيا : التقسيم و التحليل : تقسيم إشكالات و مواضيع البحث إلى أجزاء من أجل
تسهيل تحليلها على نحو أفضل .
ثالثا : الترتيب و التركيب : ترتيب إشكالات و مواضيع
البحث من أيسرها إلى أعقدها بالتدرج من أجل تركيبها في الأخير .
رابعا : القيام بإحصاء و مراجعة شاملة لكل النتائج مجددا
من أجل التأكد من عدم إغفال أي شيء مسبقا .
المفاهيم الأساسية للنص :
الفلسفة : حسب ديكارت الفلسفة
مثل شجرة جذورها الميتافيزيقا (علوم ما وراء الطبيعة) و جذوعها الفيزيقا العلوم
الطبيعية)، و أغصانها هي باقي العلوم المتفرعة عنها مثل الميكانيكا و الطب و الأخلاق
.
العقل : هي ملكة يتفرد بها الإنسان عن باقي المخلوقات، و
بواسطتها يستطيع الإنسان بناء معايير و إصدار أحكام و قرارات بخصوص شيء ما، وحسب
سياق النص هو هبة فطرية في الإنسان و مصدر كل الحقائق .
المنهج : يقصد به الطريقة و البناء النظري الذي يؤدي إلى المعرفة
الحقة، و في سياق النص هو مجموع القواعد التي يجب اتباعها من أجل تأسيس معرفة
يقينية حقة لا شك فيها، و هو ينبني على إعمال العقل .
المنطق : هو علم من العلوم النظرية (العقلية) التي تستعمل للاستدلال
و البرهنة على وجود شيء من عدمه، و أول من أسس له هو المعلم الأول ارسطو .
البداهة : تعني في سياق النص كل ما هو واضح مسبقا للعقل، ولا يحتاج إلى البرهنة عليه، و مثال ذلك : عدد أضلاع المثلث ثلاثة، 5+5 = 25، الجزء أصغر من الكل .
الشك : يعني حسب ديكارت وضع كل الأفكار و المعارف موضع تساؤل و
فحصها من أجل الوصول إلى حقيقتها، و هكذا سمي الشك الديكارتي شكا منهجيا، و الشك
المنهجي هدفه الوصول إلى الحقيقة، عكس الشك المذهبي و العقائدي الذي يهدف إلى الشك
و الاختلاف من أجل الاختلاف و فقط، نموذج شك الغزالي .
الفكرة العامة للنص :
يؤكد ديكارت على أن الطريق إلى بناء الحقيقة شاق و عسير،
و هو يستدعي القيام بفحص أرائنا و أفكارنا عن طريق العقل قبل كل شيء، وقد أشار في
المقابل إلى أن أغلب العلوم لا يمكننا تأسيس معرفة يقينية عليها، لأن أغلبها يختص بالشرح و التفسير مثل المنطق و الهندسة، وبدلا من ذلك يقترح
القواعد المنهجية الأربعة التي ستمكننا من بناء معرفة حقة و يقينية و هي : الشك و
البداهة ، التقسيم و التحليل، الترتيب و التركيب، و الإحصاء و المراجعة، و هذه
القواعد هي قواعد عقلانية تنبني البديهيات و المسلمات العقلية الخالصة .
إشكالية النص (الأسئلة التي يجيب عنها النص) :
هل يمكن بناء معرفة يقينية حقة ؟ و إذا كان الأمر كذلك –
فما هي أهم الخطوات التي يجب اتباعها من أجل ذلك ؟
البناء الحجاجي للنص :
اعتمد ديكارت على مجموعة من الدعامات الحجاجية القوية من
أجل إقناعنا بأطروحته في هذا النص، و لعل من أبرز ما يلي :
أسلوب التمثيل : حيث مثل لنا ديكارت نفسه (رجل) بفيلسوف، و السير (يسير)
بالمنهج أو الطريق، و (الظلمات) بالأفكار المتداولة المشكوك فيها، و (الحيطة)
بالشك، و (السقوط) بالخطأ و الزلل، و الغرض هنا هو توضيح ضرورة البحث عن منهج، و
أن الشك في معارفنا هو أول خطوة من أجل تصحيحها و بناء معرفة يقينية دون الوقوع في
الزلل و الخطأ .
أسلوب العد و الترتيب : و يتجلى في عده و ترتيبه للخطوات الأربعة التي يجب
التقيد بها من أجل بناء معرفة يقينية حقة و هي بداية من الشك و البداهة.. و انتهاءا
بالإحصاء و المراجعة .
خلاصة تركيبية :
كخلاصة يمكن الخروج
بها من ثنايا هذا التحليل، يمكن القول أن ديكارت قد تمكن بناءا على تصوره العقلاني
من التأسيس لمنهج عقلاني يمكننا من التأسيس لحقائق صلبة حول ذواتنا و العالم، و
ذلك بناء على قواعد عقلانية صارمة تبدأ من الشك لتنتهي عند اليقين، لكن و رغم ذلك
فإن ديكارت قد بالغ في تقدير خاصية العقل و أغفل في المقابل أن العقل و الفكر لوحدهما
بدون الحواس و معطياتها غير قادرين على الوصول إلى كل المعارف، و في هذا السياق
نتساءل : هل فعلا يمكن للعقل أن يؤسس أي معرفة بدون الاعتماد على الحواس أم أن المعطيات
الحسية ضرورية لذلك ؟
في حال أردت تشجيعنا أو التساؤل عن أي شيء، اترك تعليق لنا و شكرا .