آخر الأخبار

درس الفلسفة و العلم - تحليل نص العلاقة بين الفلسفة و العلم لبرتراند راسل ص 30


الفلسفة و العلم

الفلسفة و العلم

تأطير إشكالي عام :

من المعروف داخل السياق التاريخي و الثقافي أن الفلسفة هي أم العلوم، و هي الجذر الذي نبتت و نمت منه كل العلوم الحديثة و المعاصرة، إذ و في سياق البحث في إشكال المنهج و الطريق إلى بناء معرفة يقينية دقيقة بذواتنا و العالم، و في سياق التطور الذي عرفه الفكر البشري في ذلك، يأتي اكتشاف المنهج العلمي التجريبي و باقي المناهج العلمية النظرية أيضا، و اللذان يعتبران أحد أركان الوصول إلى مستوى أكبر من الدقة في البحث عن الظواهر و الحقائق، وهذا ما أدى إلى انفصال العلوم عن الفلسفة ،و أصبحت تتفرد بمنهجها الخاص في البحث شيئا فشيئا، و بهذا أصبح لكل علم ميدانه و موضوعه الخاص، و هذا بعدما كانت الفلسفة تجمع كل تلك الميادين من قبل، و لأن الحقيقة تتسم بكونها دائما حقيقة نسبية، فإن العلم يظل و لو بمناهجه و طرقه الدقيقة في البحث، يضل قاصرا دائما على بلوغ كل الحقيقة، و في هذا السياق، تأتي الفلسفة المعاصرة، و قد سميت معاصرة نسبة إلى الإشكال الذي عالجته ، و هو إشكال العصر الحالي، إشكال إعادة النظر في العلاقة بين الفلسفة (الأم) و العلم (الإبن)، هذا الأخير الذي غادر حضن أمه دون استئذان باحثا لنفسه عن الاستقلالية و الاعتماد على ذاته، و الظاهر للبعض، أن الفلسفة بذلك أصبح محكوم عليها بالموت و التراجع بفعل هذا الانسحاب، لكن هذا يحمل في جوهره تناقضا صارخا، فالفلسفة تفكير في الممكنات، و بموت الفلسفة يموت التفكير و ينعدم الإنسان أيضا، و لذلك، هيهات أن تموت الفلسفة بوجود الإنسان، بحيث إن فعل الاستقلال هذا شكل إعلان لوظيفة جديدة للفلسفة اتجاه العلم، بحيث لم تنفك بل تظل تطارد أبنائها في بيوتها الجديدة، محاولة توجيههم نحو المواضيع و الطريق إلى بلوغ الحقيقة بشأنها، أي توجيه العلم و السهر على ضمان سلامة طريقه، و في هذا السياق يأتي الاتجاه الإيبيستيمولوجي ليقوم بهذه الوظيفة، وظيفة التساؤل و النقد، و وظيفة مراقبة العلم (الإبن) من السقوط في خيبات الأمل جراء تعجرفه.. و بناء على هذا كله، فإننا نتساءل بدورنا عن هذا الإشكال الواقع بين الفلسفة و العلم، ما الدور الجديد للفلسفة بعد انسحاب العلم من دائرتها؟ و ما هي أم الشروط التي أدت إلى نشوء الفلسفة المعاصرة ؟ .

أهم الشروط التي أدت إلى ظهور الفلسفة المعاصرة

لقد شكلت الفلسفة المعاصرة مبحثا هاما من المباحث الفلسفية، و قد ارتبط ظهورها بعدة عوامل و شروط أساسية، و لعل أهم تلك الشروط هي :

أ : قيام الثورة العلمية .

من أهم التقدمات التي أحرزها العلم منذ ظهوره على يد أمثال كوبرنيك و نيوتن، يوجد التقدم على مستوى الرياضيات الانتقال من الهندسة الأوقليدية إلى الهندسة اللاأوقليدية على يد "لوباتشفسكي" و "ريمان"، أي أننا لم نعد نتحدث عن اليقين الرياضي المطلق، بل أصبح اليقين و الحقيقة نسبيتين، كما تم الإقرار بالمنهج الأكسيومي في الرياضيات و الذي يفتح المجال للعقل و لحريته في التجريد و البحث عن الممكنات بشكل نظري حر، أما على صعيد الفيزياء، فقد أنتجت النظريات الميكرو فيزيائية (الفيزياء الدقيقة)، و ذلك بدءا من نظرية كوانتم الطاقة ل"ماكس بلانك"، و نسبية "اينشتاين"، و كذا الميكانيكا الكوانتية ل" هيزنبرغ" ؛ و بهذا تم فتح آفاق جديدة للبحث عن منهج ملائم في دراسة طبيعة المادة الدقيقة (الالكترون نموذجا) .

ب : استقلالية العلوم الإنسانية عن الفلسفة .

و أما الشرط الثاني لقيام الفلسفة المعاصرة، فهو ظهور علوم جديدة في بداية القرن 19 ،و ذلك بعد استقلالها عن الفلسفة، حيث اهتمت هذه العلوم بالإنسان، و سميت نسبة لذلك بالعلوم الإنسانية، مثال (علم النفس، علم الاجتماع، علم التاريخ، علم الأنثروبولوجيا /علم الإنسان..)، و هذا كله بعدما كانت هناك علوم مهيمنة و مهتمة بالطبيعة قد نزعت استقلاليتها مبكرا عن الفلسفة منذ بداية القرن 16 سميت بالعلوم الحقة (التجريبية الحقة)، هذا الاستقلال تمخض عنه ظهور مبحث جديد سمي بالإيبيستيمولوجيا، كعلم اهتم بالدراسة النقدية لمبادئ و فرضيات و نتائج العلوم .

و بالإضافة إلى هذه التحولات على مستوى مناهج العلوم الإنسانية التي ساهمت بشكل كبير في إعادة بناء الواقع الذي يبنى و لا يعطى جاهزا، و تشكيل تصور جديد للعقل، يأتي التصور السيكولوجي للمدرسة الفرويدية، و التي نزعت القداسة عن الإنسان باكتشاف اللاشعور و الإقرار بعد وعي الإنسان و تمكنه من الوعي بالعالم كذلك، و بالتالي إعطاء قيمة للخطأ في بناء المعرفة . و يأتي أيضا كإضافة إلى  لكل هذا طرح مشكلة القيم و الأخلاق من خلال إعادة بناء مفاهيم منها التسامح، السلم، الحرية.. هذه المفاهيم التي تعتبر خصائص إنسانية لا يستطيع العلم أبدا الوصول إلى حقائق حولها، باعتبارها مفاهيم مجردة لا تقبل التجريب و لا القياس .

كل هذا وذاك قد ساهم في الأخير في بروز مواضيع جديدة للفلسفة المعاصرة، بل و مدارس و توجهات فكرية شتى حاولت الوقوف عند المعضلات التي يقف عندها العلم بمنهجه التجريبي، و محاولة الكشف عن الممكنات و عن مجالات و مواضيع للعلم من أجل تفسيرها و معالجتها، و هذا مع السهر على ضمان نتائج جيدة و ذات نفع بالنسبة للإنسان .

تحليل نص برتراند راسل : علاقة الفلسفة بالعلم ص30

تأطير النص :

يأتي هذا النص من أجل البحث في قضية وإشكال العلاقة بين الفلسفة و العلم بعد انفصال العلوم عن الفلسفة ، و أيضا من أجل توضيح المهمة الحالية للفلسفة اتجاه ذاتها، وواجبها الحالي أيضا اتجاه العلم .

التعريف بصاحب النص :

برتراند راسل (1872 -1970 ) ، و هو رياضي و فيلسوف إنجليزي، جمع بين الرياضيات و الفلسفة، و هو أحد مؤسسي المدرسة الفلسفية المسماة بالفلسفة التحليلية، و له مجموعة من المؤلفات أهمها : حكمة الغرب الجزء الأول و الثاني – لماذا لست مسيحيا – مبادئ الرياضيات ، و مؤلفات أخرى .

مفاهيم النص الأساسية :

العلم : هو ضرب و نوع من المعرفة يعتمد على معطيات دقيقة واضحة، و يختلف من مجال إلى آخر حسب طبيعة الموضوع المدروس، و يرتكز على خمسة عناصر أساسية هي : الموضوع، المنهج ، المفاهيم ، القانون ، السببية ، التنبؤ ، و في الغالب يعتمد هذا النوع من المعرفة حسب كلود برنار على المنهج التجريبي الذي يبدأ من الملاحظة مرورا إلى الفرضية ثم التجربة نهاية بالقانون (صياغة قانون علمي) .

التأمل : إعمال و استخدام العقل بشكل مطول في موضوع فكري ذي طبيعة ذهنية مجردة من أجل بناء تصور و معرفة حوله .

إشكال النص :

ما علاقة الفلسفة بالعلم ؟ و ما هي مهمة الفلسفة بعد استقلالية العلم عنها ؟ و ما وظيفتها الحالية اتجاه العلم ؟ .

أطروحة النص :

كإجابة على الإشكال المطروح، يؤكد راسل أن علاقة الفلسفة بالعلم هي علاقة اتصال و استمرارية، فالفلسفة تبدأ حينما ينتهي العلم، إذ أن العلم حسبه محدود بالموضوع الذي يتناوله ما دام مرتبطا بما هو مادي من الدرجة الأولى، بينما الفلسفة تفكير عقلي يسمح بالاطلاع على الممكن و لو بشكل مجرد عقلاني، و بهذا فإن الفلسفة حسب راسل هي مغامرة استكشافية لمناطق مجهولة في العلم، و ذلك من خلال القيام بوظيفتي التساؤل و النقد كتأمل عقلي، التساؤل حول الممكن و تقديمه كموضوع للعلم من أجل تناوله، و نقد الممكن و طرق البحث فيه من طرف العلم ذاته، و بالتالي فإن هدف الفلسفة الجديد هو الكشف عن مناطق و مواضيع و حقول جديدة للعلم و ضمان سلامة الطريق إليه من أجل بلوغها و تيسير تفسيرها و حلها على نحو أفضل .

البناء الحجاجي للنص :

من أجل وقوف راسل على مهمة الفلسفة ووظيفة الفلسفة بوجه عام، ومن أجل دعم موقفه من ذلك، وظف حجة الاستفهام الاستنكاري، و ذلك من خلال تساؤله عن مهمة الفلاسفة التي يعرفها مسبقا، ليمر بعد ذلك إلى شرح و تفسير الحدود الفاصلة بين العلم و الفلسفة، كون العلم يظل مرتبطا بما هو مادي و موجود بينما الفلسفة هي رحلة تفكير نظري استكشافية لمناطق المجهول .

خلاصة تركيبية :

بعد تحليلنا لنص الفيلسوف المعاصر برتراند راسل، يتبين لنا أنه من بين أهم القضايا التي شغلت بال الفلسفة المعاصرة، ووجهت إشكالاتها وتساؤلاتها، قضية العلاقة بين الفلسفة والعلم، وقد قدم الفيلسوف برتراند راسل تصورا لأحد أوجه العلاقة الممكنة بينهما . هذه العلاقة التي ترتكز على بعدين أساسيين، أحدهما التفكير النظري في الإشكالات التي يقف عندها العلم تجريبيا و إيجاد مواضيع جديدة للعلم، و الأخرى نقد العلم و مناهجه لبلوغ حقيقة هذه المواضيع ، حيث تتجه الفلسفة إلى نقد العلم في إطار ما يسمى بالإيبستمولوجيا، فالفلسفة وكما أكد راسل ليست إلا مغامرة استكشافية نقوم بها لذاتها، لا لأي شيء آخر، بل من اجل الاستكشاف و البحث فقط، أي استكشاف المجهول والتأمل فيما لا يمكن للعلم الخوض فيه، ما يجعل للفلسفة وظيفة أخرى أنطولوجية، و هي البحث عن أصل الوجود .

تعليقات