آخر الأخبار

الفلسفة و الدين - مناقشة نص ابن رشد على ضوء الفيلسوف أبو حامد الغزالي

 الفلسفة و الدين

مطلب المناقشة : مناقشة نص ابن رشد على ضوء الفيلسوف أبو حامد الغزالي


قيمة و أهمية أطروحة ابن رشد حول العلاقة بين الدين و الفلسفة :

بناءا على عرضنا المطول السابق، يتضح أن الفيلسوف ابن رشد قد قرر النظر إلى إشكالية العلاقة بين الفلسفة و الدين و غاية كل منهما بكثير من الوسطية و الائتلاف، إذ أكد على مدى ارتباط الفلسفة بالدين، فإذا كان الشرع يدعو إلأى النظر  و الاعتبار في الموجودات، فإن ذلك لا يأتي حسب ابن رشد إلا عن طريق الالتفات إلى العقل، باعتبار هذا الأخير هو وسيلة النظر هنا، و هكذا فغرضهما غرض واحد هو الفضيلة و خير و سعادة الإنسان عموما، وقد شكل دفاع ابن رشد على قضية فهم الشريعة بواسطة النظر العقلي أي المنطق دعوة صريحة إلى النظر في كتب القدامى، أي اليونانيين، و الانفتاح على ما توصلو إليه من معارف، فلما كان المنطق و العقل يؤدي إلى الحق، و الشريعة حق، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه و يشهد له، و قد كانت هذه محاولة جدية و مهمة منه في الدعوة إلى استخدام العقل و المنطق، و الانفتاح على طرق جديدة في البحث عن الحقيقة كغاية قصوى لدى الإنسان، و هذا بغية التوصل إلى حقيقة الصانع و الخالق من جهة، كما أنها دعوة صريحة إلى تجاوز هذا اللبس القائم بين منطق الدين و منطق العقل/التفيكر الفلسفي، بين طريق النقل و طريق العقل، و التي خلفت انتكاسات أحبطت تطور مجتمعاتنا، و خلافات و صراعات ارتقت لتكون الأكثر دموية خلال العصر الوسيط، و ستبقى المحاولة الرشدية محاول همة من أجل الانفتاح على المجالات الفكرية الأخرى، وبناء الطريق نحو النهضة بالفكر العربي الإسلامي من أهم المساهمات التي قدمت في سبيل الانعتاق من إشكالية جدلية العقل و النقل عموما، و تجاوزها إلى الفكر النهضوي و الحداثي .

حدود أطروحة ابن رشد :

صحيح أن مساهمة ابن رشد و محاولته للتوفيق بين الفكر الديني و الفكر الفلسفي محاولة مهمة، و قد دافع عن أطروحته بشكل واضح من خلال إقامة مقارنة بين غاية كل منهما، غير أن محاولته و أطروحته هذه لم يتم قبولها كثيرا في الأوساط الفكرية و الاجتماعية، بل خلفت ردودا قاسية جدا من البعض على ابن رشد كشخص قبل أن يكون فيلسوف، ولعل أحدها طرده و حرق كتبه من طرف البعض من المسلمين و المتشبعين بالفكر الديني دون غيره، خصوصا أن البعض من الفلاسفة الآخرين لم يقبلوا بمسألة التوفيق الذي أقامه ابن رشد بين الدين و الفلسفة، إذ أنه و بالعودة إلى منهج كل منهما، نجد أن جواهرهما تختلف في الأصل، فجوهر الدين هو الإيمان و الاعتقاد، و لو بأشياء تبدوا خارج حدود العقل أحيانا، مثل القول بالمعجزات، بالعالم الآخر، بالله.. أما جوهر الفلسفة فهو المنطق و العقل، و الذي ينصب حول كل ما هو عقلاني و منطقي قابل للفهم و التعقل، و ما عاداه لا يدخل ضمن نطقه و حدوده، وهنا تكمن نقطة ضعف أطروحة ابن رشد التوفيقية، و هذا سيخلف بعضا من الردود المعارضة لدى بعض الفلاسفة حول هذه المسألة، و لعل أبرزهم الفيلسوف أبو حامد الغزالي، فما هو تصور الغزالي نحو العلاقة بين الشريعة و الحكمة؟ و إذا كانت علاقة تنافر-فما دور العقل في الدين عموما ؟ .

موقف أبو حامد الغزالي :

إذا كان ابن رشد باعتباره أحد رواد الفكر المعتزلي قد ذهب إلى التوفيق بين الفلسفة و الدين من أجل تجاوز كل الصراعات و العقبات التي يخلفها هذا الخلاف الفكري حول الطريق إلى الحقيقة، فإن الفيلسوف أبو حامد الغزالي قد ذهب في سير و منحى آخر مخالف تماما، فباعتباره من أكبر دعاة و رواد الفكر الأشاعري، فإنه قد رفض بشكل مطلق تلك العلاقة التي حاول بعض الفلاسفة إقامتها بين الدين و الفلسفة، و قد عد ذلك بمثابة تهافت و خروج عن المعقول من قبل الفلاسفة في كتابه "تهافت الفلاسفة" و كتب أخرى ك"المنقذ من الظلال" ، و بهذا فإن أطروحته تؤكد على أن العلاقة بين الفلسفة و الدين علاقة صراع من الأساس، و أن جوهر كل منهما يختلف عن الآخر، فجوهر الفلسفة هو العقل، أما الدين فينبني على الإيمان، و هذا ما لا يمكن توفيقه و انسجامه طبعا، و قد وجه نقدا لاذعا لكل الفلاسفة الذين حاولو إقحام العقل في فهم النقل أو (المضمون الديني)، و اعتبر كل ذلك بدعة منهم، و إضافات من عقولهم و حسب، و عموما، فقد دعا الغزالي إلى إقامة الفصل التام بين كل ما هو عقلاني و ما هو ديني، و اعتبر كل محاولة تصبوا إلى عكس ذلك، ما هي إلا بدعة و إضافة بشرية لا يحتاج إليها الدين في الأصل ، و أن هذا الأخير مفهوم وواضح كما هو مُعطى لنا، و بالتالي عد الغزالي مناهضا للفكر الديني، و هذا عكس ما قدمه و طرحه ابن رشد تماما .

تركيب عام :

انطلاقا مما سبق، و بالرغم من الجدال الفكري الدائر هنا، و في حين ذهب ابن رشد إلى التوفيق بين العقل و النقل و اعتبرهما معا مصدرين للحقيقة، و ذلك في مقابل ذهاب الغزالي إلى نفي كل ذلك معتبرا النقل أو الدين لوحده مصدرا لذلك، و أن العقل محدود بمحدودية منطقه داخل الزمان و المكان..، و بالرغم من كل هذه المحاولات، فإن هذا الجدال الفكري حول مسألة العلاقة بين العقل و النقل/الدين و الفلسفة، و إشكال الطريق إلى الحقيقة، هذه الإشكالات خيمت على العصر الوسيط بأكمله، و لم تجد لها مخرجا واضحا صريحا، و لا حلا نهائيا إلا مع حلول العصر الحديث، و الذي يعد عصر التخلص من كل تبعات و شوائب و مخلفات العصر الوسيط و ما لحقه من صراعات، و لعل هذا منذ اكتشاف ما يسمى بالمنهج، هذا الأخير الذي ظل محور البحث خلال العصور السابقة كلها، و المقصود هنا المنهج المؤدي إلى الحقيقة اليقينية حول الوجود الإنساني و الطبيعي، و قد شكل ديكارت بالإضافة إلى المساهمات العلمية أحد الأعمدة الأساسية لإقامة صرح هذا المنهج، و الذي سيدشن العصر الحديث بأكمله، و سيوجه الفكر الإنساني نحو معالم و طرق إنسانية أخرى أكثر عقلانية و منطقية و ربما حقيقة و تفاؤلا من السابق، و انطلاقا من هذا كله نتساءل : - ما هو الطريق اليقيني إلى الحقيقة؟ و ما دور العقل في بناء و تشييد هذا المنهج أو الطريق؟ .

 

تعليقات