محور أساس
المجتمع
تأطير إشكالي :
لقد ظل أصل و منبع
المجتمع البشري غامضا و محط جدل و نقاش على دوام التاريخ الإنساني، و بهذا ارتقى إشكال
أساس الاجتماع البشري ليكون إشكالا فلسفيا بالدرجة الأولى، و في سياق محاولة
الفلاسفة للإجابة عنه، فقد تداخلت و اختلفت الأراء و وجهات النظر بينهم، لكن و على
العموم، فقد انقسمت هذه الأراء إلى وجهتي نظر عموما، أحدها تذهب إلى أن الطبيعة الغريزية
و حاجته الملحة هي الدافع الأولي للاجتماع، و الأخرى تقر أن الاجتماع نابع عن
الإرادة الحرة العامة للأفراد في ذلك،
وهذا كله يقودنا نحن أيضا إلى التساؤل حول هذا الإشكال :
ما أساس الاجتماع
الإنساني ؟ هل هو فعلا الضرورة التي تفرضها علينا الطبيعة الغريزية أم أن هذا
الاجتماع نتاج تعاقد إرادي حر للأفراد ؟ .
الإجابة عن الإشكال
الاتجاه الطبيعي الضروري
موقف أفلاطون : تحليل نص الحاجة كأساس للاجتماع
باعتباره المؤسس الأول للفكر السياسي ولو في شكله الجنيني،
ينظر أفلاطون في جمهوريته الشهيرة إلى أن الفرد الواحد لن يقدر و لم يكن قادرا على
توفير كل حاجياته الأساسية التي من شأنها أن تضمن له العيش و الاستمرار كحياة
طبيعية، و لهذا السبب فقد احتاج الفرد إلى مساعدة بني جنسه في تحقيق هذا النقص الضروري في نظره، و قد شكلت هذه الدوافع
مجتمعة أساس الميل الإنساني نحو الاجتماع و الانتظام مع بني جنسه في جماعة، أي أن
الضرورة الفطرية التي لا محيد عنها و التي تفرض نفسها على الإنسان هي الداعي
الأساسي للاجتماع من أجل تحقيقها، فطبيعة الإنسان تدعي حسبه التعاون و عمل كل فرد
وفق ما تهبه الطبيعة إياه من قوة و قدرة من أجل بقاء الجماعة و استمراريتها ،
وبالتالي شكلت الضرورة الطبيعية منبع المجتمع و أساسه و مبدأه الأول حسب أفلاطون .
موقف ارسطو : تحليل نص الإنسان كائن اجتماعي بالطبع
لقد ذهب ارسطو مع معلمه أفلاطون على نفس المنوال في تناوله
لقضية أساس المجتمع في فلسفته، إذ يؤكد أفلاطون على أن الإنسان حيوان مدني بطبعه، أي
اجتماعي و سياسي بالفطرة، فالاجتماع حسبه هو الوحيد الكفيل من أجل التعويض عن نقصه
الطبيعي و هو الطريق نحو كماله، فقدر الإنسان حسب أرسطو أن يعيش في جماعة أو مجتمع
مع بني أفراد نوعه و جنسه، و ذلك من أجل تحقيق اكتفاءه الذاتي من حاجيات أساسية
للعيش و الاستمرار، و تحقيقه لنزوعه الفطري نحو العيش بداخل جماعة أيضا، و قد عبر
عن هذا بقوله السالف الذكر بالإضافة إلى تأكيده على أن هذا النزوع الذي لدى
الإنسان لتكوين تجمعات من هذا الشكل هو بالتأكيد أمر طبيعي ، و لن ننسى أن ارسطو هنا
باعتباره المؤسس الفعلي للفكر السياسي بأنه يشير بقوله هذا الاجتماع إلى الدولة، المدينة، و الأسرة كأشكال للاجتماع
البشري على أنها موجودة سلفا بفطرتنا و نزوعنا الغريزي الفردي قبل تجسيدها و تحققها
في هذه الأشكال، و هي موجودة معنا بنزوعنا الفطري نحو الخير و الشر، وباقي المفاهيم
الأخلاقية، و بناء على هذا، فإن جوهر و أصل الاجتماع الإنساني يمكن في الطبيعة الغريزية
للإنسان .
الاتجاه التعاقدي الإرادي
موقف جون لوك : تحليل نص التعاقد أساس الاجتماع البشري
في سياق الإجابة التي يقدمها جون لوك انطلاقا من فلسفته
السياسية حول إشكال أساس المجتمع، فإنه يتفق مع روسو و غيرهم من فلاسفة العقد
الاجتماعي في أن العقد الاجتماعي هو الذي أوجد المجتمع بمعناه الحديث، أي المجتمع
المدني الذي يقوم على سلطات و قوانين و نظام من العلاقات التي تحفظ مصالح الجميع، غير
أن التعاقد بالنسبة إليه لم يكن نتيجة نشوء الصراع الذي سماه روسو (صراع الكل ضد
الكل)، بل إن جون لوك يؤمن بأن الإنسان يولد على فطرة خيرة، وأنه كان يتصرف في
حالة الطبيعية بما يراعي مصلحته الفردية و أيضا مصلحة الجماعة وفق نزوعه الخير،
غير أن التطور الحاصل بسبب الملكية الفردية، و ظهور حالات من الاضطراب في المقابل أدت
بالإنسان إلى التفكير في بناء مركز القرار و الحكم، و هذا الحكم لابد له من شرعية
سياسية (أي مرجع و مصدر للحكم) ، و بالتالي فكر الإنسان في التعاقد كشرعية للسلطة
السياسية و المؤسساتية تسمح بممارسة السلطة على أفراد المجتمع بناء على رغبتهم
الخاصة في ذلك، و هكذا كان التعاقد الاجتماعي بالنسبة للوك طريقة لإضفاء الشرعية و
الصبغة القانونية و السياسية و المؤسساتية على حالة الطبيعة وفقط، و عن طريق هذا
التعاقد انتقل الإنسان من الحق الطبيعي الذي تكفله له طبيعته و نزوعه الغريزي(سواء
للخير والمصلحة الفردية أم الجماعية ) إلى الحق المدني الذي يضمن استمرار حالة
الطبيعة تلك و استمرار النزوع إلى المصلحة العامة للأفراد بناء على التزامات و عقود
و اتفاقيات من شأنها أن تكفل ذلك بالشرع و السلطة .
موقف طوماس هوبس : الاجتماع الإنساني تعاقد إرادي حر
كأي فيلسوف من فلاسفة العقد الاجتماعي يذهب هوبز إلى أن
المجتمع البشري قد تحقق بفعل التعاقد الاجتماعي، و قد اتفق هوبس مع روسو كثيرا في
أن هذا الانتقال كان بفعل خصوصيات حالة الطبيعة التي سادها الفوضى و الصراع و
الاقتتال و التي يسميها هوبس (حالة الحرب المزرية)، غير أن سبب نشأة هذه الحرب في
نظره يختلف عن روسو، إذ أن السبب الحقيقي وراء نشأة الحرب و الاقتتال كان في نظره ذلك
النزوع الطبيعي للإنسان نحو العنف و العدوان، باعتبار الإنسان ذئب لأخيه الإنسان
حسبه، و هذه الحالة فرضت على الإنسان إيجاد حل بديل، و هذا الحل هو التعاقد
الاجتماعي الذي تنازل فيه الأفراد عن حرياتهم الطبيعية و جميع حقوقهم لصالح شخص أو
مجلس أو حاكم ما وفق إرادتهم العامة، مما يعني تنازلهم عن السلطة جميعا لجهة أخرى من
شأنها أن تضمن لهم جميعا حرياتهم المدنية وفق نظام من القوانين و العقود، و هكذا نشأ
المجتمع المدني كنتيجة لنشأة السلطة السياسية بفضل تعاقد إرادي حر خالي من أي إكراه
طبيعي .
تركيب :
في سياق دراستنا و تحليلنا و مناقشتنا لإشكال أساس
الاجتماع البشري، و بعد كل أشواط الإجابة عن هذا الإشكال الفلسفي، لا يسعنا إلا أن
نخلص في الأخير إلى أن منبع و أصل المجتمع قد تعدد و اختلف باختلاف التوجهات
الفلسفية و الفكرية، ففي حين يذهب أصحاب الطرح الفلسفي الطبيعي أمثال أفلاطون و
ارسطو و ابن خلدون إلى أن الطبيعة الغريزية الملحة هي الداعي و الدافع الأساسي لتجمع
الأفراد في جماعات أو ما يسمى بالمجتمع، فإن أصحاب الطرح الفلسفي التعاقدي يؤكدون
بالمقابل على أن الإنسان قد دخل في حالة من الاجتماع نتيجة إرادته الحرة التي عبر
عنها بالتعاقد، و التي دفعت به إلى العيش داخل نظام مجتمعي يقوم على نظام من
القواعد و الضوابط التي من شأنها ضمان مصلحة الجميع منهم من اجل تجبن الصراع و
الاقتتال، و هذا الاختلاف يعد مصدرا لغنى الفكر الفلسفي و ثراء الدراسات حول هذا
الإشكال عموما .
في حال أردت تشجيعنا أو التساؤل عن أي شيء، اترك تعليق لنا و شكرا .