محور اللغة و السلطة
تأطير إشكالي :
تظهر لنا اللغة كواحدة من أعظم تجليات الفكر و التفكير
لدى الإنسان، لكنها تحيلنا أيضا على إحدى المفارقات الأخرى المتعلقة بتأثيرها
علينا ككائنات تستطيع التعبير و الكلام، و لطالما عدت اللغة أداة التقسيم و
التمييز و سوء التفاهم بين الأفراد، كما شكلت إحدى أدوات ممارسة الهيمنة و السلطة
على الأفراد من أجل إخضاعهم، و هذا و لن ننسى دور اللغة في الاندماج مع المجتمع و
خلق علاقات، لكنها قد تفقد الكائن الإنساني خصوصيته بحيث تجعله يتخلى عن عالمه
الداخلي للآخرين، و في جميع الأحوال، فالكلمات و الاقوال قد تصبح في بعض الأحيان أداة
للتسلط من جهة ، ومن جهة ثانية قد تمارس علينا سلطتها و تفقدنا بذلك وجودنا من
خلال تأثيرها علينا فتجعلنا حبيسي دلالات و معاني وتأويلات لا نستطيع التحرر منها
، و في هذا السياق نتساءل :
ما طبيعة السلطة التي تمارسها اللغة علينا ؟ و هل اللغة
نسق يعمل بانفصال عن التأثير الاجتماعي و الثقافي أم أنها تظل خاضعة له ؟ .
مطلب التحليل و المناقشة
مطلب التحليل : تحليل نص سلطة اللغة لجورج غوسدورف
تأطير النص :
يأتي هذا النص الذي بين أيدينا للفيلسوف جورج غوسدورف من
أجل البحث في إشكالية علاقة اللغة بالسلطة و طبيعة السلطة التي تمارسها اللغة
علينا، و ذلك من خلال إبراز دورها في توجيع وعي الإنسان و تحديد كينونته .
المفاهيم الأساسية للنص :
التراتبية الاجتماعية : يقصد به في سياق النص ذلك التغير
و التطور الذي يحدث باستمرار على النظام اللغوي لمجتمع ما و الذي يتحدد وفق كل مجتمع
بطريقة معينة .
سلطة الكلمات : المقصود بها ذلك الإكراه الذي تمارسه
علينا الكلمات و التي تخص نظام لغوي معين داخل المجتمع الذي نوجد داخله .
سلطة التملك : هي تلك القوة التي تفرضها الكلمات داخل قاموسنا
اللغوي الشخصي و التي تتملك وعينا و حضورنا بالعالم أيضا .
السنن أو الشفرات : يقصد بها في سياق النص ذلك النسق اللغوي الذي يتفق عليه مجموعة من الناس و الذي يتم التعبير به عن أفكارنا و حالاتنا النفسية داخل منظومة مجتمعية ما .
أطروحة النص :
يرى جورج غوسدورف أن الإنسان يوجد أول ما يوجد داخل نظام
لغوي محدد، و أن هذا النظام من الكلمات و الشفرات التي يتم بنائه و تدوله يمارس
علينا نوعا من الإكراه ، و هذا يؤدي إلى توجيه وعينا و كينونتنا، إذ لا يمكننا
التفكير و لا التعبير خارج إطار هذا النسق من الكلمات و الشفرات (السنن) التي يتم الاتفاق
عليها و التعبير بها في العادة، و هذا قد يؤدي في نظره إلى إخراج الذات من عالمها
الذاتي إلى عالم الآخرين و المجتمع، و بالتالي فإن نظام العلاقات بين أفراد
المجتمع يظل محكوما بهذ النسق اللغوي المعتمد بحيث لا يجب استعمال نسق غيره من شأنه
أن يتلف المعاني و الدلالات، و هذا كله يفيد أن الإنسان حسبه يظل خاضعا لسلطة
اللغة و الكلمات التي يتم الاتفاق عليها كنفا من طرف المجتمع، مما يفقد الذات ذاتيتها
و يجعلها حبيسة عالم اللغة .
إشكالية النص :
ما طبيعة السلطة التي تمارسها اللغة على الذات ؟ و هل بإمكان
استعمالات اللغة أن تنفصل عن النسق اللغوي لمجتمع ما أم أنها تملك سلطة خاصة بها ؟
البناء الحجاجي للنص :
من أجل توضيح و تأكيد أطروحته، عمد جورج غوسدورف إلى
توظيف آلية مثال يوضح من خلاله دور اللغة و سلطتها على الذات، و هذا بقوله (فعلى سبيل
المثال ،إذا نادتني زوجتي أو أبنائي أو أصدقائي... فإنني في هذا الحال سوف أشعر
بقلق..) ، و هذا يبرز بوضوح استعمالات اللغة و سلطتها على وعي و ذات الإنسان .
قيمة و أهمية الأطروحة :
إن القول بأن اللغة تمارس نوعا من التسلط على الذات
بواسطة قاموس و نسق من الكلمات الخاصة بمجتمع ما، يجعلنا ندرك جليا نوعية الإكراه
و الإجبار الذي تخضع إليه ذواتنا داخل مجتمع ما، و بالتالي يجعلنا ندرك الفرق و
التمييز بين كل نظام لغوي من مجتمع إلى آخر، في مقابل البحث المستمر عن النسق
المناسب للتواصل و التعبير مع كل فرد و مجتمع على حدى، و هذا من شأنه أن يقود
الذات إلى فهم الآخرين أكثر انطلاقا من الانفتاح على قاموسهم اللغوي الشخصي في مقابل
عدم إصدار أي حكم مغلوط و مسبق بشأن دلالة الكلمات و الرموز التي تصدر من الآخرين .
حدود الأطروحة :
لعل القول بأن الكلمات تمارس علينا سلطتها و توجه وعينا
بالمقابل يجعلنا نقف وقفة تأمل أمامه، خصوصا و أنه يجسد ما نعيشه يوميا من استلاب
جراء استعمالات اللغة ، كما يزيدنا إدراكا لمدى الفروقات الحاصلة بين كل نظام لغوي
و آخر ، غير أن هذا القول يجعل من الإنسان مفعولا به من طرف اللغة لا فاعل أيضا
فيها، و هذا ما لا يمكننا التسليم به مع جورج غوسدورف، إذ أن كل نسق لغوي معين يظل
في النهاية نتاج للإنسان في حد ذاته، كما إن إمكانية تطوير هذا النسق و التعديل
عليه تظل متاحة لكل فرد و مجتمع، و هذا لا يستثني امتلاك نسق لغوي خاص بالفرد يعبر
به عن وعيه ووجوده و كينونته بشكل أكبر، و ذلك بالرغم من أنه لن يجد اتفاقا عاما
من طرف الآخرين، و بالتالي فإن الذات تملك كل الحرية في انتقاء شفراتها و كلماتها الخاصة
التي ترى أنها تعبر عن ما تفكر فيه و ما تريد إيصاله للعالم الخارجي .
تركيب :
يبدو من خلال ما سبق أن الإنسان باعتباره كائنا لغويا يجيد
التواصل و التعبير عن فكره، هذا الكائن يظل غالبا خاضعا لسلطة الكلمات و الرموز التي
يتم تداولها داخل نسق مجتمعي ما، مما قد يقود الذات إلى الاستلاب و الذوبان في كنف
نظام معين من الرموز و العلامات و الكلمات، غير إن إدراك هذا الأمر في المقابل قد
يقود الذات إلى استعمال آخر للغة تنتقي فيه نظاما من شأنه أن يحتفظ بخصوصيتها و باستقلاليتها
عن أي سلطة لغوية مجتمعية ما، لكن و على وجه العموم، فإننا نظل داخل نفس المفارقة
التي تقر من جهة باستقلالية الذات عن اللغة و خضوعها في المقابل لها و للمجتمع، و
بالتالي نتساءل مجددا :
ما الذي يمنح الكلمات دلالتها و معانيها ؟ هل تقوم هذه
المعاني و الدلالات باستقلالية عن الذات أم أنها تمارس عليها سلطتها ؟
في حال أردت تشجيعنا أو التساؤل عن أي شيء، اترك تعليق لنا و شكرا .