مفهوم اللغة
تأطير إشكالي :
إن الحديث عن اللغة يجعلنا نقف عند أعظم تجليات تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، ليس باعتباره الكائن الناطق الذي يستطيع التواصل و التعبير و فقط، بل باعتباره الكائن الرامز الذي بإمكانه الترميز و التعبير عن فكره داخليا و خارجيا أيضا، سواء كان ما يعبر عنه ملموسا أم لا، و لذلك، فاللغة لم ترتبط بالمنطوق و فقط، بل بالمرموز إليه و بتفكير الإنسان أيضا، و بهذا عدت اللغة خاصية إنسانية بامتياز يمكن بواسطتها التفكير و التعبير عن الفكر، و هذا ما يؤدي إلى بناء أبعاد و عوالم جديدة رمزية و صورية بناء على دلالات و معاني مجردة صرفة، كما يمكن عبر اللغة ممارسة شكل من أشكال السلطة قد تصل إلى درجة التعنيف، وبهذا يصبح القول فعلا أيضا و لو كان منطوقا و حسب، و هذا كله يجعلنا أمام كثير من الإشكالات لعل أهمها التالي : - ما اللغة بالضبط ؟ و هل هي خاصية الإنسان لوحده دون باقي الكائنات فعلا؟ و ما علاقة اللغة بكل من الرمز و الفكر و السلطة؟ و هل للغة سلطة على مستعملها و على الغير أم أن الإنسان حر في استعمالها ؟ .
المحور الأول : اللغة خاصية إنسانية
تمهيد :
من الأكيد أن الإنسان ليس بالكائن الوحيد القادر على التواصل مع بني جنسه، بل إن كل الكائنات تستطيع ذلك أيضا، لكن هذا لا يعني القول بأن لهذه الأخيرة لغة بالضبط، فإذا كانت الكائنات الأخرى تمتلك القدرة على التأشير و فهم بعض الإشارات التي تتكرر من حولها بشكل ملموس، فإن الإنسان يتعداها إلى القدرة على التمييز بين هذه الإشارات و خلق أخرى جديدة، كما أنه قادر على الترميز أيضا، الشيء الذي يجعله يشيد عالما و بعدا آخر مجرد لأشكال عيشه، و هو عالم المعنى و الدلالة المجردين من كل مادة، كما أنه يستطيع التفكير و التعبير عن فكره بواسطة هذه اللغة أيضا، و هذا الأمر يجعلنا نتساءل :
هل فعلا تعد اللغة خاصية مرتبطة بالكائن الإنساني دون سواه ؟ و إذا كان الأمر كذلك، فما الفرق بين أشكال التواصل و التعبير لدى الإنسان و باقي الكائنات ؟
مطلبي التحليل و المناقشة
أولا : مطلب التحليل : تحليل نص ارنست كاسيرر
الأطروحة العامة للنص :
في محاولة منه للإجابة عن الإشكال الذي نحن بصدده هنا، يؤكد الفيلسوف الألماني و المؤرخ و دارس الفن ارنست كاسيرر على أن اللغة خاصية إنسانية بامتياز، و من أجل توضيح ذلك عمد إلى المقارنة بين أشكال التعبير و التواصل لدى كل من الإنسان و الحيوان، مؤكدا على أن الخاصية المشتركة بين الإنسان و الحيوان هي امتلاكهم معا لجهاز مؤثر و جهاز مستقبل، الأول مسؤول عن إصدار إشارات و سلوكات هي بمثابة مثيرات، و الثاني مسؤول عن استقبالها و محاولة فهم دلالتها، لكن الإنسان يمتاز عن الحيوان بامتلاكه جهازا ثالثا هو الجهاز الرامز، و الذي يستطيع بواسطته تشكيل بعد و عالم جديد من المعاني و الأفهام و الدلالات التي تتعالى و تنفصل عن كل ما هو محسوس أو ملموس، عكس الحيوان الذي يظل مرتبطا بما هو مادي، و بهذا يعد الإنسان كائنا رامزا بالنسبة إليه، قادر على بناء عالم و بعد مفارق و لا مادي، و يقدم في ذلك مثال الفن و الأسطورة و اللغة التي تعتبر أكبر تجلي لرمزية الإنسان و قدرته على تشييد عالم مفارق لما هو ملموس، و بناء على كل هذا يستنتج صاحب النص تعريفه الخاص للإنسان، و ذلك باعتباره الكائن الرامز القادر على بناء عالم رمزي و مجرد بعيدا على كل ما هو مادي و ملموس .
قيمة و حدود الأطروحة :
من الصحيح أن لهذه الأطروحة قوتها و أهميتها في تاريخ البحث الفلسفي في إشكال اللغة، إذ أنها ميزت اللغة الإنسانية عن باقي أشكال التعبير لدى الكائنات الأخرى، و هذا يرقى بالإنسان عموما عن باقي الكائنات، غير أن هذا لا يجعل منها الأطروحة الوحيدة التي أجابت عن الإشكال، ولا البعد الواحد للنظر إلى الكائن الإنساني، إذ أن معظم الرموز و العوالم التي يبنيها الإنسان عبر اللغة، ما هي في آخر المطاف إلا مجموعة أفكار مجردة، ووسيلة للنظر و التفكير في العالم المادي الذي يعيش ضمنه الإنسان، بالإضافة إلى أنها طرق للتعبير و التواصل مع بني جنسه، و هذا يجعلنا نتساءل : ما العلاقة بين اللغة و كل من التفكير و الفكر لدى الإنسان ؟ ، ألا يمكن القول أن اللغة وسيلة للتفكير و بناء فكر أيضا ؟ .

في حال أردت تشجيعنا أو التساؤل عن أي شيء، اترك تعليق لنا و شكرا .