نموذج تحليل نص فلسفي إنشائيا وفق منهجية النص الفلسفي
نص ميلاني كلاين - من الرغبة إلى الحاجة
مطلب الفهم (مقدمة) :
يولد الإنسان على فطرته و غريزته التي تتطلب تلبيتها كباقي الكائنات الحية، غير أن تنشئته تختلف كثيرا عن الكائنات الأخرى بالتأكيد، و لعل هذا منذ الطفولة حتى الرشد، فخلال طفولة الإنسان و مرحلة نموه الأولى، يولد الإنسان كطفل رضيع و تنبني لديه علاقة من نوع آخر بينه و بين أمه، بحيث تتعدى ما هو بيولوجي فيه، و تتعدى حاجته إلى الطعام و الرضاعة و فقط، إلى مستوى آخر تظهر فيه رغباته أيضا، و ذلك منذ سنه المبكر، وهذا يلعب دورا أساسيا في تحديد وعيه و رغباته المستقبلية، و في هذا السياق تأتي الطبيبة النفسية ميلاني كلاين بمساهمتها السيكولوجية المهمة في دراسة إشكال ماهية الرغبة و الحاجة، وطبيعة بينهما، من خلال دراسة العلاقة التي تتكون لدى الطفل بين حاجياته ورغباته، و دور إشباع هذه الأخيرة من عدم إشباعها في تحديد رغبات الإنسان و بناء شخصيته و تثبيت الأنا لديه مستقبلا، و في حين يقال أن السؤال أهم من الجواب في الفلسفة و التفلسف، فإنا نتساءل بدورنا كالآتي : ما الحاجة ؟ و ما الرغبة ؟ و ما علاقة الرغبة بالحاجة ؟ هل هي علاقة استمرارية أم قطيعة ؟ و ما علاقة إشباع حاجيات الطفل الرضيع برغباته ؟ و هل تلعب دورا في تشكل رغباته و شخصيته المستقبلية أم لا ؟ .
مطلب المناقشة (عرض) :
من خلال قراءتنا و فهمنا للنص قيد التحليل و المعنون بعنوان "من الحاجة إلى الرغبة"، يمكن القول أننا بصدد معالجة إشكال فلسفي هنا متعلق بماهية كل من الحاجة الرغبة، والعلاقة بينهما، و دور تلبية حاجياتنا في بروز رغباتنا منذ سن الطفولة و الرضاعة، و لكون الخطاب الفلسفي هو خطاب مفهومي بدرجة أولى، و من فهم هذا النص أكثر، وجب الوقوف على الشبكة المفاهيمية التي يتأسس عليها أولا، ولعل أهمها : الحاجة، الرغبة، الدوافع التدميرية، و القلق الاضطهادي، الإعلاء ، الشخصية، و الأنا . ففي حين نجد مفهوم الحاجة كحالة بيولوجية يحيل على النقص و العوز و الافتقار إلى ما يحتاج إليه كل كائن حي من شروط ضرورية لحفظ بقائه . و في مقابل ذلك نجد أن الرغبة تعني في معناها العام ذلك الميل أو النزوع نحو موضوع ما، و حسب ميلاني كلاين تحيل على تلك الحالة النفسية اللاشعورية التي تحكم حياة الفرد مستقبلا، و ذلك من خلال آليات متناقضة عاشها الطفل كالعناية و الإهمال، الإشباع و الحرمان، و البكاء و الصمت..، و علاوة على ذلك يحيل مفهوم الدوافع التدميرية كمفهوم سيكولوجي خاص بميلاني كلاين على كل الميول الغريزية التي همها الوحيد هو الإشباع لتحقيق اللذة، و هذا بالإضافة إلى القلق الاضطهادي الذي يشير إلى القلق و التوتر الناتج عن العلاقة بين طلب اللذة و تجنب الألم، و أما بخصوص الإعلاء، فإنه يفيد الرقي بطريقة طلب اللذة لدى الطفل و بمجهوده المبذول في سبيل تحقيقها، مما يرقى و يعلي من شخصيته أيضا، و الشخصية هنا تحيل على تلك المجموعة من الحالات النفسية و الوجدانية و التمظهرات الفكرية ، وكل و الطبائع و المميزات التي تكون و تلتصق بالأنا بما هي ذات واعية و مسؤولة مدركة لحالاتها النفسية و لرغباتها و دوافعها الخاصة . و عموما فإن هذه المفاهيم لا تقوم بمعزل عن بعضها البعض، بل إن علاقتها علاقة جدلية ذات تأثير و تأثر فيما بينها، فلا يوجد رغبة بمعزل عن الحاجة، و المقصود بسياق النص ذلك النزوع الغريزي للطفل، فتلبية الحاجة ليس الهم الوحيد للطفل الرضيع، بل إن رغبته في التخلص من دوافعه التدميرية و قلقه الاضطهادي و الألم الناتج عن ذلك، هو أيضا أحد الأشياء التي يصبو إليها الطفل الرضيع أثناء طلبه لهذا النوع من اللذة ، كم أن هذا من شأنه أن يساهم في إعلاء الأنا و تكوين شخصية لدى الإنسان منذ الطفولة . و بناءا على هذا كله يمكننا القول أن ميلاني كلاين تتبنى هنا أطروحة مضمونها أن العلاقة بين الرغبة و الحاجة هي علاقة جدلية، إذ أن معظم رغباتنا ما هي في الأصل إلا تعبير عن استمرارية حاجيتنا الأولى منذ نشأتنا و طفولتنا إلى الآن، و بين تلك المسافة الفاصلة بين طلب الحاجة أو اللذة و تلبيتها تظهر عموم رغباتنا و تتطور و ترتقي من الأصل البيولوجي لنا، و قد أبرزت و عرضت لنا ذلك من خلال نموذج الطفل الرضيع و علاقته بثدي أمه، فلا يتعلق أمر طلب الرضاعة عند بالرغبة في تلبية حاجته إلى الأكل و حسب، بل ومن وراء ذلك تظهر رغبة بالإضافة إلى حاجته، و هي رغبته في التخلص من دوافعه التدميرية أي غريزته و لذته نحو الرضاعة و هذا من جهة، كما تظهر أيضا من جهة أخرى رغبة في التخلص من قلقه الاضطهادي كتوتر ينتج بين طلب اللذة و إشباعها، و هذا ما يفسر وجود رغبة لدى الإنسان الراشد في حنان أمه أثناء الكبر مع أن حاجياته قد زالت، و قد وضحت لنا ميلاني كلاين من خلال مقارنتها بين نوعين من طرق الرضاعة كيف أن المسافة الفاصلة بين طلب الرضيع للذة أو الحاجة (طلبه الرضاع) و بين تلبية هذه الرغبة، هذه المسافة تلعب دورا محددا في تلبية الرغبة من عدمها لدى الطفل، إذ أن عدم ترك مسافة فاصلة لا يخلص الطفل من لذته و توتراته النفسية أيضا، بالإضافة إلى أن هذه المسافة تحدد شخصية الطفل المستقبلية، بحيث أن ترك مسافة فاصلة بين طلب لذته و إشباعها يجعل الطفل في أزمة تقتضي منه حلا و بالتالي سيحاول الرقي بطرق إبداعه في التعبير عن رغباته(أي بشيء عدا البكاء)، كما أنه و خلال أزمته فإن الطفل يظن أنه قد بذل مجهودا كافيا للحصول على ثدي أمه بعد الحصول عليه، و بالتالي يلعب هذا دورا في إحساس الطفل منذ الرضاعة بالواقع، مما سيقوي حس المسؤولية و الاعتماد على الذات مستقبلا، و هذا كله عوضا عن الطريقة الثانية و هي عدم ترك مسافة فاصلة بين طلب اللذة و تحقيقها، و التي تجعل من الطفل مستقبلا إنسان غير مبدع أثناء أزماته في الواقع، و و غير مسؤول أيضا، و ذو شخصية اتكالية ضعيفة . و من أجل الدفاع عن أطروحتها أكثر، فقد استندت ميلاني كلاين في قولها هذا على حجة من الواقع (حجة سلطة/من واقعها العملي كطبيبة نفسية)، و ذلك من خلال شهادة أحد الراشدين حول شكواهم المستمرة من تلك العلاقة الشيئية بين طلب اللذة ووقت إشباعها أثناء طفولتهم المبكرة، و التي ساهمت في عدم تلبية رغباتهم كما ساهمت في عدم تثبيت الأنا لديهم.. . و بعد التطرق لكل هذا، لا يسعنا سوى الاعتراف في أن التفكير في هذا الإشكال المطروح للنقاش يحتل نصيبا و قدرا كبيرا من الأهمية لدينا، فالبحث الفلسفي في إشكالية الرغبة يعد بحثا في أحد جوانبنا الإنسانية الغامضة لدينا بالأساس، و قد ساهمت ميلاني كلاين بطرحها السيكولوجي كثيرا في تقدم هذا البحث، كما أنها استطاعت تقريبنا أكثر من تمثل ماهية الرغبة لدينا، و معرفة أحد مصادرها الهامة، و هذا دون أن ننسى الأهمية البالغة لأطروحتها حول طرق تلبية رغبات الطفل الرضيع و دورها في تشكل شخصيته و تثبيت أناه في المستقبل، مما يجعلنا أكثر إبداعا في طرق تعاملنا من الأطفال باعتبارنا عرضة لأن نكون مشاريع إنجاب و إنتاج جيل مستقبلي بدورنا أيضا، و لكن، ولكون الخطاب الفلسفي لا يهتدي إلى الثبات في العادة، فإن نقد هذه الأطروحة يظل مهما أيضا في تطويرها و الإضافة عليها، و من هنا نستطيع القول أن أطروحة ميلاني كلاين و رغم مكانتها التي ذكرنا سابقا، إلا أنها تظل مقيدة بالخلفية السيكولوجية و العلمية البيولوجية، إذ أرجعت ماهية و مصدر الرغبة إلى ما هو بيولوجي ونفسي فقط ، و بهذا حددت رغباتنا في نوع مختصر محدد وفقط، و هذا من ناحية، و أما ناحية أخرى فإنها ركزت فقط على مرحلة الطفولة كمصدر أساسي لتكون رغباتنا و ماهيتها، و هذا دون الالتفات إلى الدور الاجتماعي و الثقافي في بروز رغباتنا و تطورها لدينا، وجل مراحل تكويننا بالمجتمع أيضا عدا الطفولة، و من هنا نتساءل : ما دور الثقافة في نشأة رغباتنا و تحديد ماهيتها ؟ و هل هناك نوع محدد لرغباتنا أم أنها تتخذ أشكالا عدة ؟ .
في سياق الإجابة عن نفس الإشكال المطروح يقدم لنا الفيلسوف و الأنثروبولوجي رالف لنتون عرضا مميزا لماهية رغباتنا وأشكالها، وصحيح أنه قد أكد في نفس السياق الذي ذهبت فيه ميلاني كلاين على وجود جانب بيولوجي و نفسي في تكون رغباتنا، إلا أن هذه الأخيرة (الرغبة) لا تستمد من ذلك و فقط حسب رالف لنتون، بل إنه يضيف إلى ذلك العامل الاجتماعي و الثقافي في تحديد ماهية رغباتنا و أشكالها، فما هو اجتماعي مسؤول عن تحويل حاجاتنا البيولوجي إلى رغبة نفسية و اجتماعية في الآن نفسه، و قد أعطى في ذلك مثال اللباس، هذا الأخير الذي لم يعد موجودا فقط كحاجة لحماية الجسد كما كان سابقا، بل تعداها إلى رغبة نفسية و اجتماعية تتمثل في الحاجة النفسية إلى الظهور و الاعتراف بالأنا من جهة، و إظهار المكانة الاجتماعية و كسب إعجاب الآخرين أيضا من جهة ثانية، و هكذا تتخذ الرغبة ثلاثة أشكال حسب لنتون هي : رغبة بيولوجية، رغبة نفسية، و رغبة اجتماعية، و لكن الأخيرة لها الدور الحاسم في تحديد ماهية رغباتنا و تحويلها و تطويرها أيضا، و أما في مقابل هذا الطرح، فسنجد المنظور الفلسفي الأفلاطوني من خلال أفلاطون يقسم النفس إلى نفس شهوانية مسؤولة عن عموم لذاتنا و شهواتنا، و نفس عاقلة غاضبة و هي النفس النقية الخاصة التي ترفض كل زلة أو خطأ تقع فيه، و نفس عاقلة مسؤولة عن تحقيق توازن بينهما، و المصدر الأساسي للرغبة/الشهوة حسب أفلاطون هي النفس الشهوانية، و بالتالي فإن عموم رغباتنا هي رغبات لا عاقلة حسبه يجب إخضاعها للعقل من أجل تحصيل توازن بين قوى النفس الثلاثة لدى الإنسان، فالعقل يفرض الرغبة/الشهوة و ينظمها من أجل ألا تقف هذه الأخيرة كعائق أمام الحكمة التي تفيد العقل . و انطلاقا من هذا كله، ندرك تماما الآن أن مصدر رغباتنا و أشكالها تختلف باختلاف التصورات، و هي تتأرجح عموما بين ما هو بيولوجي، نفسي، و اجتماعي ثقافي أيضا، و بالنسبة لي أيضا، لا يمكنني إلا التسليم بأن حقيقة معرفة ماهية الرغبة بالضبط تضل غامضة و مؤرقة على الدوام، ففي حياتنا الواقعية أيضا، لطالما تقودنا حاجتنا البيولوجي إلى الرغب في أشياء معينة مثل اللباس بوقت البرد، الطعام أثناء الجوع، و الدواء أثناء المرض.. و أيضا تلعب نفسيتنا عاملا مهما في تحديد رغباتنا، كالرغبة في الحديث إلى شخص معين من أجل التخلص من الخوف، أو الرغبة في عدم الحديث أثناء الغضب، و ما إلى ذلك، بالإضافة إلى لعب المجتمع و الثقافة دورا أساسا في ظهور رغباتنا، فنحن في النهاية نتيجة تنشئة اجتماعية و أفكار مجتمع، و ثقافة مجتمع، و يظهر ذلك من خلال رغبتنا في أكل طعام يميز مجتمع أو ثقافة معنية بالضبط، أو اختيار طريقة احتفال بحفل زفاف يناسب ثقافة و مجتمع ما، أو شراء لباس لأنني تعرضت إليه أثناء وجودي بمجتمع ما، و غيرها من الرغبات . إذن، ففي النهاية، مصدر رغباتنا يتنوع و يختلف باختلاف محدداتنا الوجودية، سواء بيولوجية، سيكولوجية، أم سوسيولوجية ثقافية .
مطلب التركيب (خاتمة) :
انطلاقا من كل ما سبق عرضه، يتبين لنا جليا أن علاقة الرغبة بالحاجة تتعدد و تتنوع بتعدد الرؤى التي تتناولها، فإذا كانت ميلاني كلاين قد اعتبرت هذه العلاقة علاقة تحويلية من حاجة بيولوجية إلى رغبة نفسية لا شعورية من خلال المنظور النفسي، فإن العالم الأنثروبولوجي رالف لنتون يتمايز عنها إذ تجاوز ذلك إلى القول بأنها تتحول إلى رغبة اجتماعية أيضا، كما أن مصادر و أنواع الرغبة هي ما هو بيولوجي و نفسي و اجتماعي ثقافي أيضا، لكن هذا الأخير يلعب دورا في تحويل رغباتنا و تحديدها، و كل هذا في مقابل الطرح الأفلاطوني الذي يؤكد أنه لا فرق بين الرغبة و الحاجة أو الشهوة، هذه الأخيرة التي اعتبرها شهوة غير عاقلة يجب إخضاعها للعقل من أجل ألا تقف عثرة أمام الحكمة، لكن ما يمكن الخروج به عموما، هو أن التفكير في هذا الشكال مهم لدينا كثيرا في معرفتنا لمنابع رغباتنا الأساسية كإنسان، كما يجعلنا هذا مدركين بأن رغبات الإنسان تتمايز عن حاجاته الأساسية بالتأكيد، و أن الحاجة تظل محدودة و ثابتة بثبات أصلنا البيولوجي رغم تطور طرق تحقيقها، أما رغباتنا فهي متعددة و متنوعة بتنوع مصادرها، سواء كانت ببيولوجية أم نفسية أم ثقافية أيضا، و الأهم هو إبداعنا الشخصي في تحديد ماهية رغباتنا و التحكم فيها، و بهذا نكون أمام إشكال آخر، خصوصا و أننا أمام الحديث عن رغبة إنسان، و كائن عاقل وواع في النهاية، و أمام الحديث عن مصادر متعددة لها، و هذا يسقطنا في التساؤل بالنهاية، ما علاقة الرغبة بالوعي الإنساني ؟ و هل يعي الإنسان رغباته فعلا أم أنها تظل خاضعة للتكوين البيولوجي و النفسي و الثقافي للإنسان ؟ .
.png)
في حال أردت تشجيعنا أو التساؤل عن أي شيء، اترك تعليق لنا و شكرا .