آخر الأخبار

محور الأيديولوجيا و الوهم - تحليل نص وظائف الايديولوجيا لبول ريكور و مناقشته بمواقف ماركس و فريديريك نيتشه

 المحور الثالث : الأيديولوجيا و الوهم

تأطير إشكالي :

إن القول بأن الإنسان كائن واع ولا واع في جوهره يحملنا مباشرة على التفكير في ماهية الأفكار التي نمتلكها عن طريق هذا الوعي و اللاوعي معا، فإذا كان غرض الوعي هو تكوين صورة عن ذاته و عن العالم الذي يحيط به، و الذي غالبا لا يحدث بمعزل عن مجموعة من الآليات و الوسائل، ولعل أبرزها الإدراك الحسي و الشعور، فإن هذا الوعي قد يكون عرضة لمجموعة من الأوهام التي قد تسقط فيها هذه الآليات و منثم سقوط وعينا فيها أيضا، و بهذا قد نقول أن هذا الوعي لا يمنحنا إلا صورة مزيفة و مشوهة عن أنفسنا و الواقع، و من هنا سنتهم بدراسة و نقد مفهوم الأيديولوجيا الذي لا يعنى بعلم الأفكار و علاقتها ببعضها البعض و الواقع، وذلك لأن ما ينتج عن وعينا في الواقع ما هو إلا مجموعة من الأفكار التي تربطها علاقة جدلية ببعضها البعض، و أيضا سنهتم هنا بالوهم باعتباره الصورة المقلوبة و الحقيقة المزيفة عن الواقع الحقيقي، و سنعمل على دراسة علاقتهم بموضوع الوعي، و مدى ارتباطه بالأيديولوجيا و مدى ارتباط الأفكار التي يكونها وعينا بالوهم و الواقع معا، و هذا ما يحملنا على التساؤل بدورنا كالآتي : 

ما هي طبيعة أفكارنا ؟ و ما دور الوعي في تشكلها ؟ و هل فعلا يمنحنا الوعي صورة حقيقة عن ما نعيه؟ أو بصيغة أخرى، هل ينجح الوعي في تكوين أفكار تعبر عن الواقع كما هو أم أنه يقوم بإعطائنا لأفكار مزيفة و وهمية لا تمت للواقع بصلة ؟

من أجل تناول هذا الإشكال الفلسفي سنقوم بتحليل النص تحت عنوان "وظائف الأيديولوجيا" للفيلسوف التأويلي بول ريكور و مقاربته عبر تحليل نص إريك فايل ص  22- 23 من الكتاب المدرسي في رحاب الفلسفة مسلك العلوم التجريبية.. .

التحليل و المناقشة

مطلب التحليل : تحليل نص وظائف الأيديولوجيا لبول ريكور  ص 22

في سياق معالجته لإشكالية الوعي و ارتباطها بمفهومي الأيديولوجيا و الوهم، و مدى إعطائنا لصورة حقيقة عن أنفسنا و الواقع من قبل هذا الوعي، يأتي الفيلسوف المادي و التأويلي ليؤكد لنا أن الأيديولوجيا تعتبر أحد الوسائل و الآليات التي تعمل غالبا على التلاعب بوعينا و ما يقدمه لنا من أفكار، و هي لا تتعدى كونها وظيفة من أجل ذلك ، فما دور الأيديولوجيا في ما يقدمه لنا وعينا من أفكار؟ و إذا كانت الأيديولوجيا هي مجمل الأفكار التي تشكل وعينا بأنفسنا و الواقع، فهل وعينا و أفكارنا تعبر عن حقيقة أنفسنا و الواقع أم أن وعينا مجرد وسيط لأفكار مزيفة و مشوهة لذلك كله ؟ و إذا كانت الأيديولوجيا لا تعدو كونها استعمال حسب بول ريكور، فما هي أشكال استعمالاتها على الوعي ؟ .

إن بول ريكور و باعتباره فيلسوف تأويليا و ماديا، يعتبر الأيديولوجيا بمثابة البناء النظري للمجتمع، و الذي لا ينفصل عن البناء الاقتصادي والمادي بدوره، و من هنا فإن كل فكرة لها ارتباط بواقع ما، أو بفكرة ما و العكس كذلك، و هكذا فالعلاقة بين الأفكار و الواقع هي علاقة جدلية، ولكن فيلسوفنا يعتبر هنا الأيديولوجيا باعتبارها مجمل الأفكار التي يكونها الوعي عن نفسه و الواقع عموما مجرد وظيفة من وظائف التلاعب بالوعي، و يقترح أن للأيديولوجيا ثلاثة وظائف و استعمالات على مستوى وعينا و بناءه الفكري، و هي تشويه الواقع، ثم تبريره، و في الأخير دمج الناس تحت هذا الواقع الذي تم تزييفه و تبريره، فتشويه الواقع هنا بمعنى منح صورة مغلوطة و معكوسة عن موضوع وعي ما في الواقع، و هو يستعير تشبيه ماركس لذلك بالكيفية التي يتم قلب الصورة بها على مستوى العلبة السوداء للكاميرا، وهذه الاستعارة لتوضيح معنى التشويه حسبه، أي أنه قلب و عكس لصورة الواقع كليا، و أما وظيفة التبرير فهي تفيد إعطاء سبب للوعي حول الصورة المغلوطة التي تم تقديمها إليه، و ذلك من أجل  تبرير هذا الواقع للوعي من أجل القبول به، ويمنحنا في ذلك مثال للسلطة الكليانية، أو السلطة السياسية الشمولية التي تفرض فيه الدولة نظام مجتمعيا بدون إشراك المواطنين في ذلك، و في الأخير تأتي الوظيفة الأهم في نظره للأيديولوجيا، وهي إدماج مجموعة من الناس تحت فكرة مزيفة، ويعطينا في ذلك مثال الاحتفالات التاريخية بالذكريات الخاصة التي نقيمها و التي يتم دمج غالبية أفراد مجتمع إن لم نقل كلهم تحت لوائها و اسمها، و في الأخير يمكن القول أن الأيديولوجيا كمفهوم لا تعني حسب بول ريكور لا تعنى سوى وظيفة و وسيلة لتوهيم وعينا عن طريق تعريضه لأفكار وهمية، و هذا يبدأ بتشويه الواقع للوعي و تبريره له بسبب من أجل قبوله، و في الأخير تجميع و دمج وعي مجموعة من الناس تحت هذا  الواقع المعين الذي تم تشويهه و تبريره .

مطلب المناقشة : موقف إريك فايل و فريديريك نيتشه ص23 

موقف إريك فايل :

صحيح أن موقف بول ريكور من الأيديولوجية كوسيلة لتشويه حقائق الوعي و جعله يصدق بها ، كما أن لهذا الطرح قوة كبيرا و لاسيما وأننا بتنا في عصرنا الحالي نلاحظ مدى دور الأيديولوجيا في التلاعب بوعي الناس بالمجتمع، لكن هذا كله يظل محض نظرة من زاوية خاصة، فلا يمكننا تجاهل الدور الذي تلعبه الأيديولوجيا بالمجتمع و لا يمكننا الحديث فقط عن الدور الذي تحولت إليه مؤخرا، كما لا يصح تعميم القول بأن الأيديولوجيا قادرة على التلاعب بأي وعي كان، و إلا لأصبحنا مجرد كراكيز يتم التلاعب بأفكارها داخل الجود الإنساني، كما أن أحد أركان المجتمعات الأساسية و التي تميز كل مجتمع عن غيره هو البناء الأيديولوجي أو الثقافي و الفكري عموما . بل إن الإنسان لا يستطيع أن يمنح لحياته تميزا و معنى بدونها، فالثقافة و الأفكار أو الأيديولوجيا عموما، تمنح تصورا متميزا خاصا لكل إنسان، و في هذا الصدد يأتي فيلسوف المعنى أريك فايل الذي حاول الدفاع عن دور الأيديولوجيا بالحياة الإنسانية، و ذلك أنها تمنح للإنسان معنى لوعيه و وجوده، فمن الصحيح أن الوعي يوجد قبل كل شيء، غير أن الوجود الإنساني لا يتحقق إلا بوجود معنى له، ولكل وعي أو إنسان معنى يمنحه لوجوده الخاص، و لكن هذا لا يحدث بمعزل عن الأيديولوجيا، فالإبداع الفكري للإنسان في طريق عيشه و نمطه الشخصي في الحياة شيء لا محيد عنه، و بهذا تصبح الأيديولوجيا حسب أريك فايل أحد الأسس الضرورية لحياة كل إنسان، و أساس تَميُّز كل مجتمع عن غيره و أساس الإبداع الإنساني في العيش، و بالتالي هي ما تحقق معنى للوجود و الاستمرار في العيش .

موقف فريديريك نيتشه :

و على نفس المذهب والسير يقدم نيتشه أطروحة يمكن اعتبارها بمثابة تأكيد و دعم و استكمال للتصورات السابقة، غير أن فريديريك نيتشه ذهب أبعد من ذلك ليعتبر كل معرفة و كل حقيقة من الحقائق التي أنتجها و ينتجها وعينا ما هي إلا أوهام نسينا أنها كذلك مع مرور الزمن، لأنها لا تنتج عن وعي و لا تنتج بمعزل عن حاجة و رغبة الإنسان اللاشعورية في البقاء، و هذه الأوهام يتم انتاجها عن طريق العقل من جهة و الذي يعمل على إقناعنا و تظليلنا بأفكار معينة، خصوصا إذا كانت هذه الحقائق تؤرق الإنسان و تؤلمه، و هكذا يظلل وعينا نفسه من أجل البقاء و الاستمرار دون أي تهديد من قبل أفكاره، و هذا كله من جهة، و من جهة أخرى لإان اللغة و الخطاب يعمل دائما على تشويه الواقع و صياغته في قالب لغوي معين، و هذه اللغة لا تكشف عن الحقائق بقدر ما يستعملها الضعفاء من الناس من أجل التهوين عليهم من بطش و جشع الأقوياء، و التعبير عن الثقافة و القيم السائدة عندهم، و في الأخير يخلص نيتشه إلى أن دور الوهم و كل هذه الأيديولوجيا الزائفة التي ينتجها الوعي قوي في بقاء الإنسان و استمراره، و يعتبرها أفكارا نافعة و ليست بضارة، إذ أنها لعبت دورا كبيرا في سيرورة البقاء . 

تركيب عام للمفهوم :

انطلاقا من كل ما سبق تناوله، و انطلاقا من دراستنا و مقاربتنا للزوج المفهومي الوعي و اللاوعي، و للإشكاليات التي تحوم حولهما، لا يسعنا القول في النهاية إلا أن إشكالية الوعي و اللاوعي ستظل إحدى الإشكاليات المؤرقة بالنسبة للإنسان، فمن الصحيح أن القول بارتباط الوعي بكل من الإدراك الحسي و الشعور و الذاكرة و الزمن.. كل ذلك يقربنا أكثر فأكثر من فهم هذا المسمى وعيا، لكنه لا يمنحنا أبدا صورة واضحة عنه بالكامل، خصوصا بعد مطلع القرن التاسع عشر، و البعد الكشف عن الجانب اللاواعي الذي أثارته المدرسة التحليلية، لكن، و بالرغم من الصدمة القوية التي جعلت الإنسان ينصب نحو خاصية اللاوعي هذه و الالتفات إليها من أجل فهم ذاته و العالم أكثر، إلا أن المبالغة في تقدير هذه الخاصية جعل من الوعي الإنساني عبدا لشهواته و غريزته الباطنية أكثر، و من ثمة فإن هذا لن يسقط عن الإنسان أبدا صفة الوعي و حقيقته إدراكه لذاته و سلوكاته و أفعاله، مما يجعله دائما مسؤولا عن ما يصدر عنه و قاصدا له. و على العموم لا يسعنا سوى القول بأن الإنسان كائن واع و لا واع أيضا، و سواء تحكم أحدهم بالآخر، فإننا نظل مدركين لذواتنا و لما يحيط بنا في كلتا الحالتين، رغم مدى حقيقه هذا النوع من الإدراك، و من أجل فهم طبيعة ما نعيه أكثر، يجب ألا ننسى أبدا مدى ارتباط الوعي بأفكارنا باعتباره المصدر الرئيسي لها، مما يجعلنا أيضا أمام تضارب الأراء مجددا، فمن جهة يعتبر وعينا نتاجا للأفكار التي يتلقاها عموما، كما أنه مصدر رئيسي لها من جهة أخرى، فإمكانية تعرض الوعي لأي فكرة مغلوطة أو مشوهة حقيقة لا مفر منها، و ربما تصبح الأيديولوجيا وسيلة للتلاعب بوعينا أيضا، أو محض وهم يقوم بإنتاجه، غير أن وعينا يظل المؤسس القبلي لمعظم الأفكار، كما أن هذا لا يمنعه أبدا من نقد كل الأفكار التي يتلقاها أو ينتجها بغية التيقن من حقيقتها و دلالاتها و معانيها، بالإضافة إلى أن لهذه الأفكار أهمية بالغة في بناء معظم الأسس الثقافية و الفكرية للمجتمع، مما يمنح للإنسان دلالات و معاني متميزة لحياته، كما يجعله المبدع و الفنان المتميز في نمط و طريقة عيشه و تصوره لذاته و العالم، و في الأخير، إذا كان الإنسان كائنا بيولوجيا حيا عاقلا، واع و لا واع، يتميز بأفكاره و ثقافته التي ينتجها وعيه و يتلقاها، فهذا يقودنا طبعا إلى السؤال : ما الذي قاد الإنسان إلى هذا النوع من التميز و الإبداع؟ و إذا كان ذلك نتاج رغبته و حاجته و إرادته الخاصة و طموحه الدائم إلى سعادته.. فما طبيعة الرغبة الإنسانية ؟ و ما علاقتها بالحاجة و الإرادة و السعادة لدى الإنسان؟  .

تعليقات