المحور الثاني : الوعي و اللاوعي
تأطير إشكالي :
في سياق محاولتنا لتحديد ماهية الوعي بدقة خلال الإشكال السابق، فقد ركزنا على البعد الواعي في الإنسان، و بالتالي رسمنا طريقا خاصا يميزه عن باقي الكائنات الأخرى هو طريق وعيه و عقلانيته، لكن هذا الإنسان لا يعتبر دائما كائنا واعيا بسلوكاته و أفعاله ، بل تنتابه لحظات يخضع فيها لدوافع وجدانية و غرائز و رغبات ،و في هذا الصدد سنسلط الضوء في هذا الإشكال عن البعد الآخر المظلم من الحياة النفسية للإنسان ، كل ذلك بعد أن ظل خفيا و مستترا لعقود من الزمن، بالرغم من أنه كان يسير في توازٍ مع الوعي و قد يفوقه حضورا في جل الأنشطة التي يمارسها بشكل يومي، إننا هنا بصدد الحديث عن اللاشعور أو اللاوعي، الذي يسير ضدا على ما يمليه العقل و المعقول غالبا، و بهذا نقف حائرين مع أنفسنا عما إذا كان الوعي لا يشكل سوى الجزء الضئيل من حياة الإنسان النفسية، مما قد إلى إعادة النظر في مفهوم الوعي من جهة و مفهوم الإنسان من جهة ثانية، وهو نفس الشيء الذي أسفر عن صدمة سيكولوجية تلقاها الإنسان مع مطلع القرن التاسع عشر الميلادي مع صدور نظرية التحليل النفسي الفرويدية ، و ذلك من خلال كشفها عن جانب ظل خفيا و مضمرا لمدة طويلة، و مذ ذاك و نحن أمام إشكالات فلسفية بالجملة تحمل مفارقات يمكن صياغتها على النحو الآتي :
- إذا كان الوجود الإنساني يتحدد انطلاقا من وعيه : فهل يمكننا أن نسلم بهذا الموقف و نقف عنده ؟ ألا يمكننا الحديث أيضا عن اللاوعي في المقابل كمحرك خفي و أساسي للسلوك الإنساني ؟ و بعبارة أخرى، ما اللاوعي ؟ و كيف يتداخل عمل الوعي و اللاوعي في تحديد هوية الذات و فهم دلالات أفعالها ؟ و هل السلوك الإنساني هو سلوك واع في جوهره فعلا أم أنه خاضع لقوى أخرى لا واعية تحركه و تتحكم فيه ؟ .
التحليل و المناقشة
التحليل : تحليل نص فرضية اللاشعور
تأطير النص :
إن هذا النص لقيد التحليل هو نص للطبييب النفساني النمساوي سيغموند فرويد sigmound freud، و الذي يعتبر مؤسسا للمدرسة التحليلة بعلم النفس، و في سياق اهتمامه في بداية حياته العملية بمعالجة الأمراض الهيستيرية بواسطة التنويم المغناطيسي، فقد قادته هذه التجربة إلى الكشف عن منطقة خفية و مظلمة من حياة الإنسان النفسية، و هذا ما جعله يقترح فرضية اللاشعور كفرضية "علمية" تسمح بتفسير الظواهر النفسية و الثقافية لدى الإنسان، و في هذا الصدد يقد لنا فرويد نظريته و فرضيته القائلة باللاشعور كمنطقة شاسعة من الحياة النفسية باعتبارها المتحكم الرئيسي فيها أيضا، و هكذا أدت هذه الفرضية إلى زعزعة و صدمة لدى الإنسان ووعيه بذاته بشكل جذري فيما بعد .
البنية المفاهيمية للنص :
المخاوف الهستيرية : (انظر ص16 من الكتاب المدرسي في رحاب الفلسفة) .
الشعور : أو الأنا بلغة الجهاز النفسي الفرويدي، و هو إدراك الذات لحالاتها النفسية و الوجدانية و شهواتها و رغباتها و كذا إدراكها لضميرها الفردي و الاجتماعي الذي يحكمها .
اللاشعور : حسب صاحب النص هو الأساس العام للحياة النفسية، و يقصد به تلك المجموعة من الرغبات و الشهوات و الميول التي لم يتم طلبها من طرف الهو و لا يتم تلبيتها من طرف الأنا، لأنها تنافي ما يقوله الضمير الأخلاقي الفردي و الاجتماعي (الأنا الأعلى) .
الحلم : حسب فرويد هي تلك الصور الذهنية التي يكونها اللاوعي انطلاقا من تركيبه لمجموع الرغبات و الشهوات المردودة و المقموعة من طرف الأنا الأعلى .
رمزي : من رمز في اللغة و يعتبر الرمز علامة و دلالة تحل محل شيء حقيقي أو واقع قائم بذاته . و أما فلسفيا فهو إضفاء معنى جمالي أو قيمي على الموجودات .
مفاهيم داعمة للنص :
الأنا : هو أحد مكونات الجهاز النفسي الفرويدي، و يقصد به الجانب الواعي للإنسان و الذي يجعله مدركا لرغباته و شهواته في مقابل إدراكه لكل ما يمنع تلك الرغبات و الشهوات من ضمير فردي و اجتماعي .
الهو : هو المكون الرئيسي للحياة النفسية حسب فرويد و هو الجانب الشهواتي و الرغباتي الذي يعبر عن ميول الذات و انجذابها نحو تحقيق ما تطلبه من ملذات و شهوات و رغبات .
الأنا الأعلى : هو أحد المكونات الأساسية للجهاز النفسي أيضا، و يقصد به مجموع القواعد و الضوابط و الضمائر التي يتم عبرها إصدار أحكام و قرارات نحو ما يطلبه الهو من رغبات و حاجيات و شهوات، و هو عبارة عن ضمير فردي من جهة يمثل مبادئ الفرد الشخصية الأخلاقية، و مبادئ المجتمع العامة المستمدة من الثقافة كالدين و القانون و الأعراف و التقاليد و العادات و الاقتصاد و هو يؤنب الأنا كلما استجاب لمطالب الهو مما يجعلها تشعر بتأنيب الضمير و الانحطاط .
البنية الفكرية للنص :
- يشير فرويد إلى ضرورة عدم بقائنا حبيسي المسلمة القائلة بأن الوعي أو الأنا (الشعور) هو أصل الحياة النفسية، و لا يجب أن نبالغ في تقدير هذه الخاصية، ليؤكد بالمقابل على ضرورة التعرف على منطقة أشد عمقا و أكثر غموضا هي منطقة اللاشعور التي يعتبرها الأساس العام للحياة النفسية للإنسان .
- يبين فرويد أن التصور القديم الذي كان يختزل اللاوعي في حالات مرتبطة بلحظات زمنية قصيرة و يقلص من حجمه و حجم تأثيره لم يعد قائما، كما يفسر دور نظرية اللاشعور في فهم و حل أغلب المشاكل النفسية العصابية مثل الهيستيريا و ذلك دورها في تفسير الأحلام التي تعتبر اكبر تجليات اللاشعور عنده .
- يخلص فرويد إلى أن النشاط اللاشعوري قد ظللنا و أوهمنا لعقود من الزمن في الماضي، و أنه و بعد الآن لا يمكننا سوى القول أن أغلب سلوكياتنا و تصرفاتنا نابعة في الأصل عن اللاوعي و ليس الوعي كما كنا نعتقد .
أطروحة النص الأساسية :
ينتقد فرويد كل التصورات السابقة حول الإنسان باعتباره كائنا واعيا، بل و ينتقد المسلمة القائلة بأن الوعي مركز الحياة النفسية للإنسان، و يعرض في المقابل لتصوره القائل باللاشعور كمنطقة شاسعة و كبرى من الحياة النفسية، و يؤكد على أنها العنصر المتحكم و الرئيسي في نشأة كل ما هو نفسي و كل سلوكياتنا و تصرفاتنا و انفعالاتنا التي كنا نعتقد أنها واعية، و برز لنا دور تصوره هذا في حل غالبية المشاكل و الاضطرابات النفسية .
إشكالية النص :
- ما هي المكونات البنيوية للجهاز النفسي عند الإنسان ؟ و كيف تتفاعل هذه المكونات فيما بينها ؟ و إذا كان الوعي جزءا لا يتجزأ من هذه الحياة-فما المتحكم الرئيسي في حياة الإنسان النفسية ؟ هل هو الوعي أم اللاوعي ؟ ثم ما نوع العلاقة التي تجمع فيما بينهما ؟ .
البنية الحجاجية للأطروحة :
نقول عادة أن الخطاب الفلسفي خطاب برهاني و استدلالي في جوهره، و لهذا و من أجل دعم صاحب النص لأطروحته و إقناعنا بها، وظف فرويد مجموعة من الآليات لذلك، و لعل أبرزها أسلوبي الدحض و الإثبات، حيث يقوم في مستهل نصه بدحض التصور القديم و المسلمة القائلة بأن الوعي هو العنصر المتحكم و هو أساس الحياة النفسية، في حين يعرض في المقابل لفرضيته الجديدة القائلة باللاشعور كمنطقة شاسعة من حياة الإنسان النفسية و يحاول إثبات هذا التصور من خلال إبراز دورها في فهم و حل أغلب المشاكل و الاضطرابات النفسية لدى الانسان مثل حالات الهيستيريا و كذلك دورها في فهم حالة الحلم باعتبارها عنده التجلي الرئيسي للاشعور .
القيمة الفلسفية للأطروحة و حدودها :
إن تصور فرويد السالف الذكر، له قيمة و أهمية فلسفية كبيرة حيث استطاع من خلاله قلب نظرة الإنسان إلى ذاته و إلى الغير، و شكل كذلك بالنسبة للإنسان صدمة سيكولوجية (نفسية) عميقة من خلال إفصاحه عن أن الشعور ما هو إلا جزء ضيق من حياة الإنسان النفسية، أما اللاشعور فهو الجزء الأعمق فيهان و عن طريقه نستطيع فهم الإنسان بشكل أكبر، و هذا ما يجعل مساهمته هذه في الإجابة عن إشكال هوية الإنسان بشكل عام مساهمة ذات أهمية في صيرورة البحث الفلسفي حول الإنسان و محاولة فهم كنهه و مصدر سلوكياته و أفعاله .
و بالرغم من كل ذلك، فإن هذا لا يعني أبدا أن مفهوم اللاوعي هو الجزء الوحيد و المتحكم في حياة الإنسان النفسية، كما لا يعني أنه يرتبط فقط بمكبوثات الإنسان وشهواته كالطاقة الجنسية (الليبيدو)، بالإضافة إلى أنه لا يرتبط فقط بالبعد السيكولوجي (النفسي) للإنسان، بل يتعداه إلى الجانب السوسيولوجي (الاجتماعي) أيضا، و بهذا لا يمكن التسليم بأن الإنسان كائن لاواعي بكل ببساطة، و إلا لأصبح مثله مثل باقي الموجودات التي تعتبر لاواعية كذلك، كما تجدر الإشارة إلا أن الوعي يرتبط أيضا بالوجود الاجتماعي، و من هذا المنطلق و بعد كل هذا نجد أنفسنا أمام إشكال فلسفي آخر مفاده : هل الإنسان فعلا لا واع بذاته و ما يصدر عنها من سلوكيات و أفعال ؟ و هل يقصد كل ما يفكر فيه و يفعله يا ترى ؟ و ما علاقة وعي بالوجود الاجتماعي ؟ و من يحدد الآخر ؟ و ما علاقته بالمعنى أيضا باعتبار أفعال الانسان ذات معنى ؟ .
تركيب :
من خلال ما تقدم، يتبين جليا أن فرويد قد اعتبر أن الوعي مجرد مظهر سطحي لحياتنا النفسية أو دائرة صغيرة لا يمكن تفسير حقيقتها إلا بالرجوع إلى منطقة أو دائرة أكبر شساعة، إلا و هي منطقة اللاشعور و التي تشغل الحيز الأكبر من الحياة النفسية للإنسان، كما أنها مرد و مصدر كل أفعال و سلوكيات الإنسان و تصرفاته، و هذا التصور و هذه الفرضية قد مكنتنا فعلا من الكشف عن منطقة عظمى ظلت خفية و مستترة لمدة طويلة من الزمن، كما مكنتنا من فهم الإنسان أكثر و تجاوز أغلب الصعوبات في فهم و حل بعض الحالات النفسية للإنسان و معالجتها مثل حالات الهيستيريا بالإضافة لحالة الحلم التي ظلت غامضة لعقود من الزمن .
.png)
في حال أردت تشجيعنا أو التساؤل عن أي شيء، اترك تعليق لنا و شكرا .